فصل: قال البقاعي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويدل على ذلك أيضًا حديث سهل بن بيضاء، «وهو أنه كان مسلمًا بمكة يُخفي إسلامه، ثم إنه خرج مع المشركين ببدر، ووقع في الأسر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا ينفلتن منهم أحدّ إلا بفداء أو ضربه عنق. فقال ابن مسعود: يا رسول الله، إلا سهل من بيضاء، فإني قد سمعته يذكر الإسلام فقال صلى الله عليه وسلم بعد سكتة: إلا سهل بن بيضاء».
المظهر الثاني: التطبيق الخاطئ للبراء من الكفّار.
وذلك كاستباحة دماء الذِّمّيين أو المعاهدين أو أموالهم، أو معاملتهم بغلظةٍ وعُنْف من دون سبب يُسوِّغُ ذلك؛ إلا ادّعاء أن هذا هو مقتضى الولاء والبراء. مع أن الرفق واللطف بهم هو المأمور به، بشرط أن لا يَدُلّ على عُلُوّ الكافر على المسلم كما سبق.
ولا شك أن تلك الأعمال «من استباحة الدماء والغلظة والعنف» ليست من الولاء والبراء في شيء، بل إن «البراءَ» منها براء لِلَّهِ.
وقد تقدَّمَ بيان سماحة عقيدة الولاء والبراء، وعدم تعارضها مع ما أمرنا به الشارعُ من البر والإحسان بالكفار غير المحاربين، ومن العَدْل مع المحاربين.
وإنّما أُتي غلاةُ هذا المظهر من أحد أمرين، يرجعان كلاهما إلى ضعف فقه المسألة في قلوبهم، وهما:
الأول: عدم شمول النظرة إلى أدلّة الكتاب والسنة التي مع وضوح عقيدة الولاء والبراء فيها، فقد أمرت بآدابٍ وأخلاقٍ نُعَاملُ بها غيرَ المسلمين. فيقتصرون على الجانب الأوّل، مع إغفال أو استشكال الجانب الثاني. فيقودهم ذلك إلى تطبيق خطأٍ للبراء، لا يُقِرُّهم عليه دينُهم؛ لأنهم انطلقوا في تطبيقهم للبراء بغير قيدٍ أو ضابط.
الثاني: عدم مراعاة فقه المصالح والمفاسد، بأن دَرْءَ المفسدة مقدَّمٌ على جَلْب المصلحة، وأنه تُدْفَعُ أشد المفسدتين بأخفّهما.
وفقه المصالح والمفاسد بابٌ عظيمٌ جدًّا من أبواب الفقه الإسلامي، بل لقد قامت الشريعةُ كلها عليه. ولذلك فإن إدراكه، والتطبيقَ الصحيحَ له، ليس في قدرة أكثر الناس، وإنما هو بابٌ لا يلجه إلا العلماء الربّانيون الفقهاءُ في دين الله تعالى.
وعلاقة ضعف هذا الفقه في غُلاة هذا المظهر من «البراء» بظهوره منهم: هو أنّ المسلمين اليوم يعيشون حالة استضعافٍ، وهم مستهدَفون من غيرهم، طمعًا في ثرواتهم، وخوفًا من يقظتهم وعودتهم إلى سابق مجدهم. ولا شك أن لهذه الحالة أحكامًا وأعذارًا ليست لحالة عز الإسلام وأهله، فلا يصحُّ أن نطالب المستضعَفَ بما نطالب به العزيزَ القاهرَ لعدوّه.
فالغفلة عن هذا الواقع الأسيف، هي سبب الغفلة عن فقه المصالح والمفاسد عند غلاة البراء.

.مظاهر غلو التفريط:

ولغُلّوِّ التفريط مظهران:
الأول: مهاجمة عقيدة الولاء والبراء، والمطالبة بإلغائها، بحجّة أنها تؤصّل ثقافة الكراهية للآخرين، وتؤجّج نار التطرُّف والغُلُوّ.
وهؤلاء إن قصدوا الولاء والبراء الذي ورد في تلك الآيات وهاتيك الأحاديث النبويّة، وأجمعت عليه الأمّة، وكان من أمور الدين المعلومة منه بالضرورة فلا نخوض معهم في هذه الجُزئيّة أصلًا، وإنما ندعوهم إلى الإسلام أوّلًا؛ فإذا هُمْ أجابونا إلى ذلك، ودخلوا في الإسلام، فإن قلوبهم حينها سَتَنْطِوي على الولاء والبراء الشرعيّ. وليسوا في حاجةٍ إلى أكثر من ذلك، لارتباط الولاء والبراء بأصل الإيمان، كما قدّمناه.
وإن قصدوا الولاء والبراء الخاطئ الذي هو مظهرٌ من مظاهر غُلُوّ الإفراط فيه فليس من الإنصاف أن يُحمَّلَ هذا المعتقدُ الصحيحُ جَريرةَ خطأ المخطئين فيه، ولا أن نقابل غلوَّهم بغُلُوٍّ في الطرف الآخر.
الثاني: مهاجمة مظاهر الولاء والبراء الشرعية الصحيحة، ومحاولة تذويبها، بإشاعة عادات الكفار وتقاليدهم بين المسلمين.
لقد كان لعقيدة الولاء والبراء في نصوص الكتاب والسنة ذلك الحظُّ الوافر الذي لا يكاد يغلبه وفورًا ووضوحًا إلا نصوص التوحيد لِلَّهِ بل إن نصوص التوحيد نفسَها هي من نصوص الولاء والبراء!! وشَرَع الله لنا أحكامًا كثيرةً، مبنيّةً على النهي عن التشبُّه بالكفار، بل على الأمر بمخالفتهم، وذلك أيضًا في نصوص وافرة، وصنّف العلماء في جمعها وفقهها كتبًا عديدة، قديمًا وحديثًا.
وما هذه الأحكام الإلهيّة إلا لغرض ترسيخ «البراء» من الكفار في قلوب المسلمين، ولجعله واقعًا عمليًّا ومعنىً حيًّا في المجتمع المسلم.
حيث إن المعتقَدَ إذا لم يكن له واقعٌ في الحياة، فإنه لا يعدو أن يكون أفكارًا جوفاء، وخيالاتٍ ليس لها أيّ ثمرة.
فتطبيقُ مظاهر الولاء والبراء الصحيحة شرعٌ لا مناصَ من التزامه والعمل به، وإلا كنا قد شابهنا اليهود الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.
فكيف يرضى مسلمٌ لمجتمعه أن يذوب في المجتمعات الأخرى، وأن ينخلع من حضارته وتاريخه؟! هل هذا من صدق الانتماء لأمتنا؟! أم أنّه دليل العمالة للأعداء؟!!

.الخاتمة:

أهمّ نتائج البحث:
1- أن تعريف الولاء والبراء هو: حُبُّ الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم ودينه، والمسلمين، ونصرتهم؛ وبُغْضُ الطواغيتِ التي تُعبد من دون الله والكُفْرِ، والكافرين، وعداوتُهم.
2- أن هذا المعتقد دَلّت النصوص المستفيضة القطعية عليه من القرآن والسنة، وأجمعت عليه الأمة.
3- أن الولاء والبراء معتقدٌ مرتبطٌ بأصل الإيمان، فلا إيمان بتاتًا بغير «ولاء وبراء»، ولا يمكن أن يُوجد إسلامٌ أو مسلمون بغيره.
4- أن الولاء والبراء ليس خاصًّا بالمسلمين، بل كُلُّ أتباع مذهبٍ أو دينٍ، لابد أن يكون بينهم ولاء، وأن يكون عندهم براءٌ ممن خالفهم.
5- أن الولاء والبراء فِطْرةٌ رُكّبَ عليها البشر كلّهم، ولابد من بقائه على وجه الأرض، ما دام بين الناس اختلافُ عقائد ومناهج.
6- أن الولاء والبراء ما دام من دين الإسلام، فلابد أنه مُصْطَبِغٌ بسماحته ورحمته ووسطيّته.
7- أن الولاء والبراء لا يُعارِضُ حُرّيةَ بقاءِ الكافر الأصليِّ على دينه، ولا حُرِّيَتَهُ في التنقّل في بلاد المسلمين «سوى الحرم»، ولا سكنى بلاد المسلمين بصورة دائمة «سوى جزيرة العرب»، ولا يعارض ما يقرّره الدينُ من حُرْمة دماء أهل الذمّة والمعاهدين وأموالهم وأعراضهم وكرامتهم، ولا يعارض الوصيّةَ بهم، ولا الرفقَ واللطفَ في معاملتهم «بشرط أن لا يدل ذلك الرفقُ واللطفُ على عُلُوّ الكافر على المسلم»، ولا يعارضُ بقاءَ حَقِّ ذوي القربى الكافرين، ولا يعارضُ العَدْلَ حتى مع المحاربين.
8- أن الولاء والبراء بناءً على ذلك ليس معتقدًا يخجلُ منه المسلمون، بل هو مطلبٌ عادل، لا تخلو أمةٌ تريدُ العزّةَ لأبنائها مِنْ أن تعتقدَه وتتبنّاه منهجًا لها.
9- أن الغلو في الولاء والبراء خطأٌ لا يَخُصُّ الولاء والبراء، ولا يخصُّه عند المسلمين وحدهم. فالغلوّ ظاهرةٌ لا يخلو منها مجتمع بشري، على أي دين أو مذهب.
10- أن غُلاةَ الولاء والبراء بين جانبي إفراطٍ وتفريط.
11- أن غلاة الإفراط سبب غلوّهم في الولاء والبراء عدم فَهْمهم لمناط التكفير فيه، أو عدم ضبطهم للبراء بالضوابط الشرعية في تعاملهم مع غير المسلمين.
12- أن غلاة التفريط في الولاء والبراء سببُ غُلُوّهم إمّا انعدامُ الإيمان في قلوبهم، أو جهلهم بحقيقة الولاء والبراء الشرعيّ الصحيح، أو وقوعهم تحت ضغط الهزيمة النفسيّة أمام الغرب.

.التوصيات:

أمّا أهمّ التوصيات، فهي:
1- وجوب ترسيخ معتقد الولاء والبراء بين المسلمين على الوجه الأكمل؛ لأنه بغيره لن يبقى للمسلمين باقية، فهو سياجُ أمانهم من الذوبان في الأديان والعقائد الأخرى.
1- وجوب تفقيه المسلمين بحقيقة الولاء والبراء، وأنه لا يُعارضُ آدابَ التعامل بالرفق واللطف «المنضبطَين بالضابط الشرعي» مع غير المسلمين.
2- ضرورةُ التأكيد على عدم تعارض الولاء والبراء مع سماحة الإسلام ورحمته ووسطيّته، ونَشْرُ ذلك في وسائل الإعلام المختلفة.
3- حتميّة مواجهة الغرب بحقيقة الولاء والبراء الشرعيّ، فليس فيه ما يخجل منه المسلمون، ومجابهتهم بأنّنا لو لم يكن من عدالة هذا المعتقد عندنا إلا أنهم هم يُواجهونا بولائهم لبعضهم وبراءتهم منّا لكفى بذلك عدلًا وإنصافًا.
4- ترسيخ مفهوم أن البراء من الكافرين لا يعني ظلمهم والاعتداء عليهم.
هذا... والله أعلم.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
وكتبه د. الشريف حاتم بن عارف العوني. اهـ.

.تفسير الآية رقم (57):

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما نبه سبحانه على العلل المانعة من ولاية الكفار وحصر الولاية فيه سبحانه، أنتج ذلك قطعًا قوله منبهًا على علل أخرى موجهًا للبراءة منهم: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان، ونبه بصيغة الافتعال على أن من يوالهم يجاهد عقله على ذلك اتباعًا لهواه فقال: {لا تتخذوا الذين اتخذوا} أي بغاية الجد والاجتهاد منهم {دينكم} أي الذي شرفكم الله به {هزوًا ولعبًا} ثم بين المنهي عن موالاتهم بقوله: {من الذين}.
ولما كان المقصود بهم منح العلم، وهو كاف من غير حاجة إلى تعيين المؤتي، بني للمجهول قوله: {أوتوا الكتاب} ولما كان تطاول الزمان له تأثير فيما عليه الإنسان من طاعة أو عصيان، وكان الإيتاء المذكور لم يستغرق زمان القبل قال: {من قبلكم} يعني أنهم فعلوا الهزو عنادًا بعد تحققهم صحة الدين.
ولما خص عم فقال: {والكفار} أي من عبدة الأوثان الذين لا علم لهم نُقِلَ عن الأنبياء، وإنما ستروا ما وضح لعقولهم من الأدلة فكانوا ضالين، وكذا غيرهم، سواء علم أنهم يستهزؤون أولا، كما أرشد إليه غير قراءة البصريين والكسائي بالنصب {أولياء} أي فإن الفريقين اجتمعوا على حسدكم وازدرائكم، فلا تصح لكم موالاتهم أصلًا.
ولما كان المستحق لموالاة شخص- إذا تركه ووالى غيره- يسعى في إهانته، حذرهم وقوعهم بموالاتهم على ضد مقصودهم فقال: {واتقوا الله} من له الإحاطة الكاملة، فإن من والى غيره عاداه، ومن عاداه هلك هلاكًا لا يضار معه {إن كنتم مؤمنين} أي راسخين في الإيمان بحيث صار لكم جبلة وطبعًا، فإن لم تخافوه بأن تتركوا ما نهاكم عنه فلا إيمان. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى نهى في الآية المتقدمة عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء وساق الكلام في تقريره، ثم ذكر هاهنا النهي العام عن موالاة جميع الكفار وهو هذه الآية. اهـ.